يلومونني في سالم وألومهم ........ وجِلْــدَةُ بينَ العين والأنفِ سالمُ قيل بـ سالم بن عبدالله بن عمر
سالم بن عبدالله بن عمر
وفي كنف أبيه العَــبـَّاد الزَّهــَّـاد صوَّام الهواجر قوام الأسحار تربَّى ...
وبأخلاقه العمرية تخَـلَّق ...
ولقد رأى فيه أبوه من مخايل التقى ، وعلائم الهدى ... وأبصر في سلوكه من شمائل الإسلام ، وأخلاق القرآن فوق ما كان يراه في إخوته ...
فأحبه حباً ملك عليه شغاف قلبه ، وخالط منه حباتِ فؤادِه ، حتى لامه اللائمون في ذلك فقال :
يلومونني في سالم وألومهم ........ وجِلْــدَةُ بينَ العين والأنفِ سالمُ
وأقبل عليه يبثه ما وعاه صدره من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ...
ويفقهه في دين الله ...
ويمليه من كتاب الله ...
ثم دفع به إلى الحرم الشريف .
* * *
وكان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال معموراً بطائفة كبيرة من جِلَّةِ الصحابة .
فحيثما أَلـَـمَّ الفتى بركن من أركانه ؛ ألفى أمامه نجماً فيه ألَقٌ [نور وضياء] من سنا النبوة ، وعبَق من طيوب الرسالة الغرَّاء .
وأينما رمى بطرفه أو ألقى بسمعه ؛ أبصر خيرا وسمع برا .
وبذلك أتيح له أن يأخذ عن طائفة من جِلَّةِ الصحابة على رأسهم أبو أيوب الأنصاري ، وأبو هريرة ...
وأبو رافع ، وأبو لبابة ، وزيدُ بن الخطاب .
وذلك بالإضافة إلى والده عبد الله بن عمر .
فما لبث أن غدا علَماً من أعلام المسلمين ...
وسيداً جليلاً من سادة التابعين ...
وأحد فقهاء المدينة الذين يفزع إليهم المسلمون في دينهم ...
ويأخذون عنهم شريعة ربهم ...
ويرجعون إليهم في معضلات الدين والدنيا .
وكان الولاة يأمرون قضاتَهم إذا عُرضت عليهم القضايا أن يدفعوا بها إليهم .
فإذا جاءتهم المسألة اجتمعوا جميعاً ونظروا فيها ، ثم لا يقضي القضاة إلا برأيهم .
* * *
وكان أسعدَ الولاةِ حظًّــا ، وأطيبهم أحدوثة ، وأقربهم إلى قلوب الناس ، وأوثقهم عند الخلفاء ؛ من يأخذ بمشورة سالم بن عبد الله ويلتزم بتوجيهه .
أما الذين يخالفون أمره ، فقد كانت المدينة تنبو بهم [تضيق بهم ولا يجدون بها قرارا] ، ولا تتحمل ولايتَهم .
من ذلك أن " عبدَ الرحمن بن الضحاك " ولِي المدينةَ في خلافةِ يزيدَ بن عبدِ الملك.
وكانت فاطمة بنتُ الحسين رضي الله عنه ونضَّر في الجنة روحَه ؛ قد ترملت ، وانقطعت إلى أولادها .
فتقدم إليها ابن الضحاك وخطبها لنفسه .
فقالت :والله ما أبغي الزواج ، ولقد قعدت على بَنِيَّ ، ووقفت نفسي عليهم .
فجعل يلح عليها وهي تحتال في الاعتذار إليه ؛ من غير مخاشنةٍ خوفاً من شره .
فلما وجدها تأباه ، قال لها :
والله لئن لم ترضَيْــنَـنِي لك زوجاً لآخذن أكبر بنيك ، ولأجلدنه بتهمة شرب الخمر .
فاستشارت سالم بن عبد الله في أمرها ؛ فأشار عليها بأن تكتب للخليفة كتاباً تشكو فيه الوالي ، وتذكر قرابتها من رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ، ورَحِمها في آل البيت .
فكتبت الكتاب ، وأنفذته مع رسول لها إلى " دمشق " .
* * *
ما كاد الرسول يمضي بالكتاب حتى جاء أمر الخليفة إلى " ابنِ هرمُز " عامله على ديوان المال في المدينة بأن يقدم عليه ليرفع إليه حسابه .
فقام " ابن هرمز " يُوَدِّعُ أصحاب الحقوق عليه ؛ فاستأذن على فاطمةَ بنتِ الحسين موَدِّعاً وقال :
إني ماض إلى " دمَشق " فهل لكِ من حاجةٍ ؟ .
فقالت : نعم ...
تخبرُ أميرَ المؤمنين بما ألقى من ابن الضحاك وما يتعرض به إلىَّ ...
وأنه لا يرعى حرمة لعلماء المدينة ، وخاصة سالمَ بن عبد الله .
فلام " ابن هرمز " نفسه على زيارتها ؛ إذ ما كان يريد أن يحمل شكواها من ابن الضحاك إلى الخليفة .
* * *
وصل " ابن هرمز " إلى " دمشق " في نفس اليوم الذي وصل فيه الرسول الذي يحمل كتاب فاطمة بنت الحسين .
فلما دخل على الخليفة ، استخبره عن أحوال المدينة ، وسأله عن سالم ابن عبد الله وصحبه من الفقهاء ، وقال له :
هل هناك أمر ذو شأن جدير بأن يعلم ، أو خبر ذو خطر حريٌّ بأن يُذكر ؟ .
فلم يذكر له شيئاً من قصة فاطمة بنت الحسين .
وفيما هو جالس عنده يرفع له حسابه ، إذ دخل الحاجب وقال :
أصلح الله الأمير ...
إن بالباب رسولَ فاطمةَ بنت الحسين .
فتغير وجه " ابن هرمز " وقال : أطال الله بقاء الأمير إن فاطمة بنت الحسين حملتني رسالة إليك ، وأخبره الخبر ...
فما أَن سمع الخليفةُ مقالته حتى نزل عن سريره وقال :
لا أُمََّ لك ...
ألم أسألك عن شئُون المدينة وأخبارها ؟!...
أيكون لديك مثل هذا الخبر وتكتمه عني ؟!!.
فاعتذر إليه بالنسيان .
ثم أذن للرسول فأُدخلَ عليه ، فأخذ الكتابَ منه وفَضَّه ، وجعل يقرؤه والشرر يتطاير من عينيه ، وأخذ يضرب الأرض بخَيزُرَانٍ كان في يده وهو يقول :
لقد اجترأ ابنُ الضحاك على آل رسول الله صلى الله عليه وسلم ...
ولم يُصِخْ لنصحِ سالم بن عبد الله فيهم !!!...
هل من رجل يُسمعُني صوتَه وهو يُعذَّب في المدينة ، وأنا على فراشي هنا في "دمشق" ؟ { يعني صوتَ ابنِ الضحاك } .
فقيل له : نعم يا أمير المؤمنين ...
ليس للمدينة إلا " عبدُ الواحد بنُ بشرٍ النَّضْرِي " ...
فوَلِّه إياها ... وهو مقيمٌ الآن في " الطائف " .
فقال : نعم ... والله نعم ... إنَّه لها ...
ثم دعا بقِرطَاس وكتب بيده :
من أميرِ المؤمنين يزيدَ بنِ عبد الملك إلى عبد الواحد بن بشر النضري .
السلام عليك ...
أما بعد ... فإني قد ولَّيتُك المدينة ، فإذا جاءك كتابي هذا فتوجه إليها ، واعزل عنها ابنَ الضحاك ...
وافرِض عليه غرامةً مقدارُها أربعون ألف دينار ...
وعذِّبهُ حتى أسمعَ صوته من المدينة .
* * *
أخذ صاحبُ البريد الكتاب ، ومضى يحثُّ الخُطا نحو الطائف عن طريق المدينة .
فلما بلغ المدينة لم يدخل على واليها ابنُ الضحاك ولم يسلم عليه ؛ فأوجس الوالي خيفة في نفسه .
وأرسل إليه ودعاه إلى بيته ، وسأله عن سبب قدومه فلم يَبُح له بشيء ؛ فرفع ابنُ الضحاك طرفَ فراشه وقال :
انظر... فنظر فإذا كيسٌ قد مليء دنانيرَ .
فقال :هذه ألف دينار ...
ولك علي عهد الله وميثاقه إن أنت أخبرتني عن وجهتك وما في يدك لأدفعنها إليك، ولأكتُمنَّ ذلك ...
فأخبره ... فدفع إليه المالَ ، وقال له :
تريَّث هنا ثلاث ليال حتى أصل إلى " دمَشق " ، ثم امضِ إلى ما أُمرت به ...
* * *
زَمّ [شَدَّ على راحلته] ابنُ الضحاك ركائبَه ، وغادر المدينة لتوِّه ، ومضى يحثُّ المطايا نحو "دمشق".
فلما بلغها دخل على أخي الخليفة مسلمةَ بنِ عبد الملك ، وكان سيداً أرِيحيّاً [سامي الخلق وافر المعروف] صاحبَ نجدة ...
فلما صار بين يديه قال له :
أنا في جوارك أيها الأمير .
فقال : أبشر بخير ... وما شأنُك ؟!.
فقال : إن أمير المؤمنين ناقمٌ علي لهَــنَّــةٍ بدرت مني .
فغدا مسلمةُ على يزيدَ وقال : إن لي لدى أمير المؤمنين حاجة .
فقال يزيد : كلُّ حاجةٍ لك مقضية ما لم تكن في ابنِ الضحاك .
فقال : والله ما جئتك إلا من أجله .
فقال : والله لا أُعفِيه أبداً ...
فقال : وما ذنبُه ؟!.
فقال : لقد تعرض لفاطمة بنت الحسين وهدَّدها وتوعَّدها وأرهقها ...
ولم يُصِخْ لنصح سالمِ بن عبد الله في أمرها ؛ فهَـبَّ شعراءُ المدينة جميعاً يهجونه ...
وطفق صلحاؤها وعلماؤها طُرّاً يعيبونه ...
فقال مسلمة :
أنت وشأنك معه يا أمير المؤمنين .
فقال يزيد :
مُرْهُ أن يعود إلى المدينة لينفذ واليها الجديد أمري فيه ...
ويجعله عِبْرَةً لغيره من الولاة ...
* * *
فرح أهل المدينة أعظم الفرح بواليهم الجديد .
وسرَّهم حزمُه في تنفيذ أمر الخليفة بابن الضحاك .
وازدادوا تعلقاً به حين وجدوه يذهب مذاهب الخير ، ولا يقطع أمراً من أمورهم إلا إذا استشار فيه القاسمَ بنَ محمدِ بن أبي بكر ، وسالمَ بن عبد الله بن عمر .
فمرحى لخليفة المسلمين يزيد بن عبد الملك ...
وتجلة للإسلام العظيم الذي أبدع هذه المُــثُل ، وصنع أولئك الرجال
كان لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب طائفة من الأبناء ، لكن ابنه عبد الله كان أشدهم شبهاً به ...
وكان لعبد الله بن عمر عدد من الأبناء أكثر مما كان لأبيه ... لكن ابنه سالماً كان أشدهم شبهاً به .
فتعالَوْا نتابع قصة حياة سالم بن عبد الله ، حفيد الفاروق ، وأشبه الناس به خُـلُـقـاً، وخِلقةً ، وديناً وسمتاً .
* * *
عاش سالم بن عبد الله في رحاب " طيبة " المطيَّبة ...
وكانت " طيبة " إذ ذاك ترفل في أثواب من الغنى والنعمة لم تشهد لها مثيلاً من قبل.
فقد كان رزقها يأتيها رغداً من كل مكان ، وكان خلفاء بني" أمية " يتيحون لها من أسباب الثراء ما لم يخطر ببال .
لكن سالم بن عبد الله لم يُقبِل على الدنيا كما أقبل عليها غيره ، ولم يَحفِلْ بعَرَضِهَا الفاني كما حَفِلَ به سواه ؛ وإنما زهد بما في أيدي الناس رغبة بما عند الله ، وأعرض عن العاجلة رجاء الفوز بالآجلة .
ولقد جرب خلفاء بني " أمية " أن يغدقوا عليه الخير كما أغدقوه على غيره ؛ فوجدوه زاهداً بما في أيديهم ... مستصغراً للدنيا وما فيها ...
* * *
ففي ذات سنة قدم سليمان بن عبد الملك مكةَ حاجاً...فلما أخذ يطوف طواف القدوم ؛ أبصر سالمَ بنَ عبد الله يجلس قُبالة الكعبة في خضوع ...
ويحرك لسانه بالقرآن في تبتل وخشوع ...
وعَبَرَاتُهُ تَسِحُّ على خديه سحّاً ، حتى لكأن وراء عينيه بحراً من الدموع .
فلما فَرَغ الخليفةُ من طوافه ، وصلى ركعتين سنة الطواف ؛ توجه إلى حيث يجلس سالمُ بن عبد الله .
فأفسح الناس له الطريق حتى أخذ مكانه بجانبه ، وكاد يمس بركبتِه ركبتَه .
فلم يتنبه له سالم ولم يلتفت إليه ، لأنه كان مستغرقاً بما هو فيه ، مشغولاً بذكر الله عن كل شيء ...
وطفق الخليفة يرقب سالماً بطرْفٍ خفي ...
ويلتمس فرصة يتوقف فيها عن التلاوة ويكف عن النحيب حتى يكلمه .
فلما واتته الفرصة مال عليه وقال : السلام عليك يا أبا عمر ورحمة الله .
فقال : وعليك السلام ورحمة الله تعالى وبركاته .
فقال الخليفة بصوت خفيض : سَلْنِي حاجةً أقضِها لك يا أبا عمر .
فلم يجبه سالمٌ بشيء .
فظن الخليفة أنه لم يسمعه ، فمال عليه أكثر من ذي قبل وقال :
رغبت بأن تسألني حاجة لأقضيها لك .
فقال سالم : والله إني لأستحي أن أكون في بيت الله عز وجل ؛ ثم أسألَ أحداً غيره .
فخجل الخليفة وسكت ، لكنه ظل جالساً في مكانه .
فلما قضيت الصلاة ، نهض سالم يريد المضي إلى رحله .
فلحقت به جموع الناس ...
هذا يسأله عن حديث من أحاديث رسول الله صلوات الله وسلامه عليه .
وذاك يستفتيه في أمر من أمور الدين ...
وثالث يستنصحه في شأن من شؤون الدنيا ...
ورابع يطلب منه الدعاء ...
وكان في جملة من لحق به خليفة المسلمين سليمان بن عبد الملك ، فلما رآه الناس ، وسعوا له حتى حاذى مَنكِبُه مَنكِبَ سالم بن عبد الله ... فمال عليه وهمس في أذنه قائلاً :
ها نحن أولاء قد غدونا خارج المسجد ، فسلني حاجة أقضها لك .
فقال سالم :
من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة ؟ .
فارتبك الخليفة وقال : بل من حوائج الدنيا ...
فقال له سالم :
إنني لم أطلب حوائج الدنيا ممن يملكها ؛ فكيف أطلبها ممن لا يملكها ؟ .
فخجل الخليفة منه وَحَـيَّـاه ، وانصرف عنه وهو يقول :
ما أعزكم آل الخطاب بالزهادة والتقى ؟ ...
وما أغناكم بالله جل وعز !! ...
بارك الله عليكم من آل بيتٍ .
* * *
وفي السنة التي قَبْـلَها حَجَّ الوليدُ بن عبد الملك .
فلما أفاض الناس من " عرفات " ، لقي الخليفةُ سالمَ بنَ عبد الله في " المزدلفة " وهو مُحْرِمٌ ؛ فحياه وبيَّاه ، ثم نظر إلى جسده المكشوف فوجده تام البنية ، بادي القوة ، كأنه بناءٌ مبنيٌّ ؛ فقال له :
إنك لحسن الجِسْم يا أبا عمر ...
فما أكثرُ طعامِك ؟ ! .
فقال :
الخبزُ والزيتُ ...
وإذا وجدتُ اللحمَ - أحياناً - أكلتُه .
فقال :
الخبزُ والزيتُ ؟!.
فقال : نعم .
فقال : أوَ تشتهيه ؟!.
فقال :إذا لم أشتهِه أتركُه حتى أجوعَ فأشتهيه .
* * *
وكما أشبه سالمٌ جدَّه الفاروق في الإعراض عن الدنيا والزهادة بعَرَضِها الفاني ، فقد أشبهه أيضاً في الجهر بكلمة الحق مهما كانت ثقيلة الوطأة شديدة التبعات ...
من ذلك أنه دخل على الحجاج ذات مرة في حاجة من حوائج المسلمين .
فرحب به الحجاج وأدنى مجلسه وبالغ في إكرامه ...
وفيما هما كذلك ؛ إذ أُتي الحجاج بطائفة من الرجال ؛ شُعثِ الشعور ، غُبْرِ الأجسام ، صفرِ الوجوه ، مقرَّنِينَ في الأصفاد [ مقيدين في الحديد ].
فالتفت الحجاجُ إلى سالمٍ وقال :
هؤلاء بغاةٌ مفسدون في الأرض ؛ مستبيحون لما حرَّم الله من الدماء .
ثم أعطاه سيفه ، وأشار إلى أولهم وقال :
عليك به ...
فقم إليه واضرِبْ عنقه ...
فأخذ سالم السيف من يد الحجاج ، ومضى إلى الرجل ...
وقد شخصت أبصار القوم نحوه تنظر ماذا يفعل ؟!.
فلما وقف على الرجل قال له :
أمسلم أنت ؟.
فقال : نعم ...
ولكن ما أنت وهذا السؤال ؟ ... امض لإنفاذ ما أمرت به .
فقال له سالم : وهل صليت الصبح ؟ .
فقال الرجل : قلت لك إني مسلم ، ثم تسألني : إن كنت صليت الصبح !! ...
وهل تظن أن هناك مسلماً لا يصلي ؟ .
فقال سالم : أسألك أصليت صبح هذا اليوم ؟ .
فقال الرجل : هداك الله ، قلت لك نعم ...
وسألتك أن تنفذ ما أمرك به هذا الظالم ، وإلا عرضت نفسك لسخطه .
فرجع سالم إلى الحجاج ، ورمى السيف بين يديه وقال :
إن الرجل يقر بأنه مسلم ، ويقول : إنه صلى صبح هذا اليوم ، وقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله ) .
وإني لا أقتل رجلاً دخل في ذمة الله عز وجل .
فقال له الحجاج مغضباً :
إننا لا نقتله على ترك صلاة الصبح ...
وإنما نقتله لأنه ممن أعان على قتل الخليفة عثمان بن عفان .
فقال له سالم :
إن في الناس من هو أولى مني ومنك بدم عثمان .
فسكت الحجاج ، ولم يحر جواباً .
ثم إن أحد شهود المجلس قدم على المدينة وأخبر عبدَ الله بن عمر بما طلبه الحجاج من ابنه سالمٍ .
فلم يتريث حتى يسمع بقية الخبر ...
وإنما بادر محدثه قائلاً : وما صنع سالم بأمر الحجاج ؟ .
فقال له : صنع كذا وكذا .
فسُرِّي عنه ، وقال :
كَـيِّـسٌ كَـيِّـسٌ ...
عاقِلٌ عاقِلٌ ...
* * *
ولما آلت الخلافة إلى عمرَ بن عبد العزيز كتب إلى سالم بن عبد الله يقول :
أما بعد ... فإن الله عز وجل ابتلاني بما ابتلاني به من ولاية أمر المسلمين عن غير مشورة مني ولا طلب .
فأسأل الله الذي ابتلاني بهذا الأمر أن يعينني عليه .
فإذا جاءك كتابي هذا ؛ فابعث لي بكُتُبِ عمرَ بن الخطاب ، وأقضِيَتِه ، وسيرته ...
فإني عازمٌ على أن أتَّبِع سيرَتَه ...
وأسير على نهجه إن أعانني الله على ذلك ... والسلام .
فكتب إليه سالمٌ يقول :
أما بعد ... فقد جاءني كتابُك الذي تذكر فيه أن الله عز وجل ابتلاك بإمرة المسلمين من غير طلب منك ولا مشورة ... وأنك تريد أن تسير بسيرة عمر ...
فلا يَـفُـتْـكَ أنك في زمان غيرِ زمان عمر ...
وأنه ليس في رجالك من يماثِل رجال عمر ...
ولكن اعلم أنك إن نويتَ الحق وأردته ؛ أعانك الله عليه ، وأتاح لك عمالاً يقومون لك به ...
وأتاك بهم من حيثُ لا تحتَسِبُ ...
فإنَّ عون الله للعبد على قدر نيته ...
فمن تَمَّت نيتُه في الخير تم عونُ الله له ، ومن قصُرت نيتُه نقص من عون الله له بقدر نقص نيته ...
وإذا نازعَتْكَ نفسُك إلى شيء مما لا يُرضِى الله عز وجل ؛ فاذكر من كان قبلك من ذوي السلطان الذين سبقوك إلى الرحيل عن هذه الدنيا ...
وسلْ نفسَك كيف تفَـقَّـأَت عيونُهم التي كانوا يشهدون بها اللذات ، وكيف تمزقت بطونُهم التي كانوا لا يشبعون بها من الشهوات ...
وكيف صارُوا جيَفاً لو تُركَت إلى جانب مساكننا ولم توارها آكامُ الأرض [ مرتفعاتها ]؛ لضجَجْنا من ريحِها .
ولمَسَّنا الضرُّ من نَـتْـنِـها .
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
* * *
وبعدُ ...
فقد عاش سالم بنُ عبدِ الله بن عمر بن الخطاب عُـمُـراً مديداً حافلاً بالتقى ...
عامراً بالهدى ...
أعرض فيه عن زينة الدنيا وزخرفها ...
وأقبل خلالَه على ما يُرضي الله ...
فأكل من الطعام ما غلُظ ...
ولبس من الثياب ما خشُن ...
وغزا " الرومَ " مع جيوش المسلمين جُندياً ...
وقضى حوائجَ المسلمين ، وحنا عليهم حُـنُـوَّ الأمهات ...
فلما أتاه اليقينُ سنة ستٍّ ومائة للهجرة ؛ ارتجَّت المدينةُ حزناً عليه ...
وتَرَك نعيُه في كل قلبٍ لوعة ...
وعلى كل خد دمعة ...
وهَبَّ الناسُ ، كلُّ الناس يشيعون جَنَازتَه ، ويشهدون مدفنه ...
وكان هشامُ بنُ عبد الملك يومئذٍ موجوداً في المدينة ؛ فخرج للصلاة عليه وتشييعه .
فلما رأى تزاحمَ الناس وتدفُّقَهم ؛ هالَتْـه كثرتُهم ، وأثارت في صدره شيئاً من الحسد، فساءَل نفسَه قائلاً :
تُرى كم يخرجُ من هؤلاء الناس لو أن الخليفة مات في بلدهم هذا ؟ .
ثم قال " لإبراهيم بنِ هشامٍ المخزومي " واليه على المدينة :
افرض على أهل المدينة أن يبعثوا أربعة آلاف رجلٍ إلى الثغور .
فسُمِّي ذلك العامُ عامَ أربعة الآلاف ...
اللهم اغفر لكاتبها وناقلها,وقارئها واهلهم وذريتهم واحشرهم معا سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
Leave a comment
حياكم شاركونا برايكم..