كان عنترة نتاج علاقة بين أبيه شداد بن قراد العبسي وأمةٍ حبشية سوداء سباها في إحدى غزواته.
ولد عنترة أسود اللون، قوي البنية، في رعاية أم تعاني من الرق ولكنها في الوقت نفسه ترعى أولادها رعاية خاصة حيث كان لها أولاد غير عنترة منهم حنبل وشيبوب.
لُقِّب عنترة بعدة ألقاب مثل أبي المغلِّس لسيره إلى الغارات في الغَلَس وهي ظلمة آخر الليل كما لُقِّب بالغراب لسواده.. وكان أغربة العرب في الجاهلية ثلاثة، عنترة وأمه زبيبة، وخفاف بن عمير الشريدي وأمه ندبة، والسلَّيك بن عمير السعدي وأمه السلكة.
ولكن كيف تحول عنترة من ذلك الفتى الشريد الذي ينكره أبوه ويحتقره إخوته، إلى ذلك الفارس الصنديد الذي حفر اسمه بحروف من ذهب في صفحات تاريخ الفروسية والشعر.
لم تستطع أمه المسكينة أن تهبه أكثر من العطف والحنان ولم يستطع أبوه وهو موقن بأنه ابنه وقطعة منه إلا أن يمنحه فرصة رعي الإبل.
حتى حينما صارح شداد أولاده الأحرار إخوة عنترة بأن عنترة هذا هو أخوهم، هو ابنه من لحمه ودمه، ثاروا عليه واتهموه بالخرف.
سمع عنترة ذلك واعتصر الألم قلبه.. فالإنسان يولد حراً فكيف يجوز استعباده؟!
ـ وماذا أفعل يا أبتي؟
نظر شداد إلى عنترة لأول مرة نظرة الأب الحاني لا السيد المتعالي وقال:
ـ اذهب يا بني.. اذهب وارع الإبل.. واحلب وصر..
والصر.. هو أن يشد ضرع الناقة بخيط حتى لا يرضعها ولدها..
ولم يكن أمام الفتى الأسود إلا أن يكتم ألمه ومشاعر الإحباط وينطلق إلى الصحراء مع جِمال أبيه يرعاها ويحلبها ويصرّ ضروعها.
أعطته الصحراء رحابتها وسماحتها كما أعطته شدتها وصلابتها، أعطته فصاحة اللسان ووهبته الشاعرية التي تفوق بها على أقرانه وأكد من خلالها أن الإنسان هو الإنسان.. لا فرق بين لون ولون ولا لسان ولسان..
تتحدث الروايات عن قصة تحرره من الرق وتختلف في التفاصيل وتتفق في النهايات. هو أدرك أن رعي الإبل لن يمنحه الحرية، ولا طريق إلى حريته إلا بالقوة، ولا قوة إلا بالسلاح والفروسية.
تمكن من بيع عدد من جِمال أبيه لشراء سيف ورمح وترس.. أما الحصان.. فلديه العديد من الخيول وهو مسؤول حتى عن رعايتها.
أتقن عنترة ركوب الخيل، ودرّب نفسه بنفسه على استخدام السيف والرمح والدفاع عن نفسه بالترس أو الدرع. وفي ذات يوم غزا نفر من قبيلة طيء مضارب بني عبس، وكان رجال بني عبس في غزوة أخرى خارج مضاربهم.. فهكذا كانت الحياة.. وهكذا كانت الفروسية وسيلة اقتصادية أكثر منها حرباً قائمة على اختلاف العقائد والمذاهب. لم يكن عنترة في الحي ساعة الغزو. كان يرعى الإبل كعادته ولما ورد بها الماء جاءه صوت الإستغاثة. وعلم عنترة أن أمه وأباه قد أصبحا في عداد المسبيين. أخرج سلاحه وأسرج حصانه وتبع الغازين فأدركهم وعندما تمكن من قتل ثمانية منهم بدأت مفاوضات السلام.
◆ ماذا تريد يا عنترة فنعطيك وينتهي الصراع؟
ـ أريد تلك العجوز السوداء، وذلك الشيخ الذي معها.. إنهما أمي وأبي..
◆ نعطيهما لك وترحل..
ـ أعطوهما لي وأعدكم بالرحيل.
وهنا صرخ عمه:
◆ ونحن يا عنترة؟
ـ من أنت؟
◆ أنا عمك..
ـ الآن تقولها.. كم مرة قرعت بابك وطلبت أن أتزوج ابنتك فكنت تردني وتعيِّرني بسواد جلدي.
◆ أنت إبن أخي شداد.. وأنا أعترف بك.. فكرّ عليهم يا عنترة.. كرّ.
ـ العبد لا يكرّ.. ولكن يحلب ويصرّ..
◆ أشهد أني زوَّجتك إبنتي.. عبلة..
لم يكد يذكر عمه اسم عبلة.. حتى انتفض عنترة وكرّ على الغزاة وتمكّن من قتل عشرة آخرين، فعاد الغزاة إلى طلب المفاوضات..
◆ اسمع يا عنترة.. نحن نعطيك هذا الرجل وابنته.. فماذا تقول؟
ـ والله لا أرجع إلا والقوم جميعاً معي..
وهاجم عنترة الغزاة، وقتل أكثر من أربعين منهم، وأدرك الغزاة أنهم أمام عملاق لا يقهر، وأن عنترة وحده يعادل ألفاً من أشد الفرسان، فتركوا كل شيء وفروا مؤثرين السلامة.
بعد تلك الحادثة، تعود لعنترة حريته، وتكون له مكانته في القبيلة، وتقع ابنة عمه في غرامه، فهي أمام فارس لا يُجارى، ولم تكن القوة والشجاعة هما كل ما لديه، بل إنه رقيق القلب فيّاض العاطفة، مرهف الحس، عفيف النفس، حكيم المنطق.
لم تكن شجاعته تقوده إلى التهور..
وعندما سألته عبلة ذات يوم: هل أنت أشجع العرب وأشدها؟
قال: لا..
قالت: فكيف شاع ذلك بين الناس؟
قال: كنت أقدم إذا رأيت الإقدام عزماً.. وأحجم إذا رأيت الإحجام حزماً.. ولا أدخل موضعاً لا أرى لي منه مخرجاً.. وكنت أتجه إلى الضعيف الجبان فأضربه الضربة الهائلة فيطير لها قلب الشجاع فأثني عليه فأقتله.
لم تكتمل قصة حب عنترة لعبلة ولم تؤكد المراجع والمصادر التاريخية أنهما تزوجا.. بل وكما هي العادة يفرق القوم بين الحبيبين، وتزوج عبلة لغير عنترة، ولكن الحب لا ينتهي بهذه البساطة.. ويظل عنترة حتى اليوم الأخير من عمره يذكر عبلة ويشبب بها.. ولولا أنه نسب إلى لونه أولاً.. ثم إلى الأعمال الجليلة التي قدمها لقبيلته ثانياً.. لكان انتسب إلى عبلة.. ليقال عنترة عبلة.. كما قيل عن جميل بثينة وكثير عزة وقيس ليلى.
كان شعره تجسيداً لحياته، ولمشاعره، فهو حقق حريته بعمله وفعله لا بقوله.
حتى وهو يقاتل ويواجه سيوف الموت يتذكر حبيبته ويقول:
ولقدْ ذكرتكِ والرّماحُ نواهِلٌ
مني وبيضُ الهندِ تقْطُر من دَمِي
فَوَددْتُ تقبيلَ السيوف لأنها
لَمَعَتْ كبارق ثغرِكِ المُبتسمِ
قالت عبلة ذات يوم:
◆ من يراك لا يعرف حقيقتك..
ـ ولماذا؟
◆ لأن منظرك وأنت في الحديد.. يخفي رقة مشاعرك.. ومقدار ما لديك من لطف وعطف..
ـ والله يا عبلة.. ما حملت سيفي إلا مضطراً.. فنحن في غابة.. إن لم تكن ذئباً فيها أكلتك الذئاب.. وإن لم تَقتل تُقتل.
◆ وأية فائدة من ذلك؟
ـ لم تجربي الذل يا عبلة.. الموت أسهل عليّ من الذل.. أنا عشت طفولتي وبداية شبابي عبداً رقيقاً يُضرَب ويُهان ويُحرم من أبسط حقوق الإنسان.
◆ ومع ذلك، فأنت لم تتحول إلى وحش.. أنت كريم.. تعفُ بعد أي غزوة عن المغانم.. وترفض حصتك من أي غنيمة.. وأنت حليم تعفو عمّن أساء إليك.. وأنت بار بأبيك الذي أنكرك وأمك التي ربَّتك وحنَّت عليك.. وأنت فوق ذلك عاشق تذوب من الصبابة والحب..
ـ صدقت يا عبلة.. لم يذلني إلا الحب.. ولكنه الذل المحبب:
قد طالَ عزّكمُ وذُلّي في الهوى
ومن العجائب عِزّكمْ وتَذَلُّلي
لا تسْقِني ماء الحياة بِذِلَّةٍ
بلْ فاسْقني بالعِزِّ كأسَ الحَنظل
ماء الحياةِ بذلةٍ كجهنّمِ
جَهَنّمٌ بالعِزّ أطيبُ منزلِ
نصل بذلك إلى القصيدة، وهي معلقة عنترة بن شداد والتي حملت تجربة حياته، ولخّصت فلسفته، وجسّدت مشاعره بكل جلاء ووضوح.. ونختار منها الأبيات التالية:
هل غادر الشعراء من مُتردِّمِ
أم هل عرفت الدار بعد توهُّم
يا دار عبلة بالجواد تكلمي
وعِمي صباحاً دار عبلة واسْلمي
وتحل عبلة بالجواءِ وأهلنا
بالحزنِ فالصَّمَّانِ فالمُتثلِّمِ
حُييت من طلَلٍ تقادم عهده
أقوى وأقفرَ بعد أُمِّ الهيثم
عُلقتها عرضاً وأقتلُ قومها
زعماً لعمر أبيك ليس بمزعمِ
ولقد نزلتِ فلا تظني غيره
مِنّي بمنزلةِ المُحبِّ المكْرم
كيف المزارُ وقد تربّع أهلها
بعنيزتين وأهلنا بالغيلمِ
أثني عليَّ بما علمت فإنني
سمْحٌ مُخالقتي إذا لم أُظلمِ
فإذا ظلمتُ فإن ظُلمي باسلٌ
مُرٌّ مذاقتهُ كطعم العلقمِ
ولقد شربتُ من المُدامة بعدما
ركدَ الهواجرُ بالمشوفِ المُعْلمِ
بزجاجةٍ صفراء ذات أسِرَّةٍ
قُرِنت بأزهُرَ في الشمالِ مفدَّمِ
فإذا شربتُ فإنني مستهلكٌ
مالي وعرضي وافرٌ لمْ يُكْلَمِ
وإذا صحوْتُ فما أُقصِّرُ عن ندى
وكما علِمتِ شمائِلي وتكَرُّمي
وحَليلِ غانيةٍ تركتُ مُجدَّل
تمكو فريصَتهُ كشدق الأعلمِ
سبقت يدايَ له بعاجلِ طعنةٍ
ورَشاشِ نافذة كلونِ العَنْدَمِ
هلاّ سألتِ الخيلَ ياابنةَ مالكٍ
إن كنت جاهلةً بما لمْ تعْلَمي
إذْ لا أزال على رحالةِ سابحٍ
نَهْدٍ تعاورَهُ الكُماة مُكَلَّمِ
طوراً يُجرَّدُ للطعانِ وتارةً
يأوي إلى حَصْدِ القُسيِّ عَرَمْرَمِ
يُخْبرك من شهدِ الوقيعةِ أنني
أغشى الوغى وأعفُّ عند المِغْنمِ
ومُدجَّجٍ كرِهَ الكُماةُ نِزالهُ
لا مُمعنٍ هرباً ولا مُستسلِمِ
جادت له كفّي بعاجلِ طعنةٍ
بمثقفٍ صدق الكُعوبِ مُقوَّمِ
فشككت بالرُّمح الأصمِّ ثيابهُ
ليسَ الكريم على القَنا بمُحرَّمِ
فتركتُهُ جَزرَ السِّباعِ يَنُشْنَهُ
يَقْضُمنَ حُسنَ بنانِه والمِعْصَمِ
ومِشكِّ سابغة هتكتُ فُروجها
بالسيفِ عن حامي الحقيقة مُعلمِ
لما رآني قد نزلتُ أريدُهُ
أبدَى نواجِذَهُ لغيرِ تبسُّمِ
فَطعَنتُهُ بالرُّمحِ ثم علَوْتُهُ
بِمُهنّدٍ صافي الحديدةِ مِخْذَمِ
بطَلٍ كأنّ ثيابهُ في سَرْحِةٍ
يُحذى نِعالَ السِّبتِ ليسَ بِتَوْأمِ
لمّا رأيتُ القومَ أقبلَ جمْعُهُمْ
يتذامرون كرَرْتُ غيرَ مُذَمَّمِ
يدعونَ عنترَ والرّماحُ كأنّها
أشطانُ بِئرٍ في لِبانِ الأدهمِ
مازلتُ أرْميهِمْ بثُغرةِ نَحْرِهِ
ولبانِهِ حتى تسَرْبَلَ بالدّمِ
فازْورَّ من وقع القَنا بلَبانِهِ
وشكا إليَّ بعبْرةٍ وتَحَمْحُمِ
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى
ولكانَ لو علِمَ الكلام مُكلّمي
ولقد شَفى نفْسي وأذهبَ سُقْمها
قيلُ الفوارسِ ويكَ عنترَ أقدِمِ
والخيل تقتحم الخَبار عوابساً
من بين شَيْظَمَةٍ وآخرَ شَيْظَمِ
الشاتِمَيْ عِرضي ولَمْ أشْتِمْهُما
والناذرينَ إذا لَمْ ألقَهُما دَمي
إن يفعلا فلقدْ تركتُ أباهما
جَزَرَ السباعِ وكلِّ نسْرٍ قشعَمِ
المصادر والمراجع:
1 – ديوان عنترة/ كرم البستاني
2 – الأغاني/ أبو الفرج الأصفهاني
3 – لسان العرب/ ابن منظور